أخطر الأخطاء السياسية ليست تلك التي تَظهر كلفتُها بشكل فوري، وإنما تلك التي لا يتضح ضررها إلا مع مرور الوقت، وهذا ما ينطبق على انسحاب الرئيس دونالد ترامب من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ. فالرئيس كان سعيداً بانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية خلال الأيام الأولى من رئاسته، لكن ثمن ذلك سيتم دفعه هذا الشهر، خلال جولته الآسيوية. ومع أن ترامب كان واضحاً خلال حملته الانتخابية بشأن معارضته لهذه الاتفاقية، فإن بعض الأوساط فوجئت مع ذلك لكونه رفضها بشكل كلي. وعلى سبيل المقارنة، فإن بيل كلينتون وباراك أوباما كانا يعارضان الاتفاقيات التجارية في السابق، لكنهما عندما انتُخبا بَحثا عن تعديلات جعلت الاتفاقيات مقبولة ومستساغة. هذا الأمر يعكس الطريقتين المختلفتين جداً التي كان يُنظر بهما إلى «الشراكة عبر المتوسط» من قبل أنصار ترامب وفي آسيا. فترامب جعل من الاتفاقية رمزاً للعولمة وللمشاكل التي تعانيها بعض قطاعات الطبقة المتوسطة. وكان ذلك بعيداً كلياً عن التحليل الهادئ والرصين لمواد الاتفاقية، وانتقاد مكامن النقص والقصور، مما كان سيبدو معقولاً أكثر بالنسبة للنظراء الآسيويين. ولئن كان نسفُ «الشراكة عبر الهادئ» قد مثّل فرصة نادرة استطاع خلالها الرئيس الأميركي اتخاذ إجراء حاسم لإنجاز أحد الوعود التي كان أطلقها خلال حملته الانتخابية، من دون أخذ عمل الكونجرس في عين الاعتبار، فإنه يطرح بعض التحديات الجدية التي يواجهها خلال جولته الآسيوية. وفي ما يلي ثلاثة منها: التحدي الأول: إن لم تكن علاقات تجارية، فما عساها تكون؟ هناك أبعاد متعددة للانخراط الأميركي في آسيا، أهمها الانخراط التجاري، والانخراط الدبلوماسي، والانخراط الأمني. فمثلاً عندما أرادت إدارة أوباما التركيز على المنطقة («الاستدارة»)، فإنها زادت من زياراتها الدبلوماسية إلى المنطقة وأدخلت بعض التعديلات على عمليات الانتشار العسكري، لكن جوهر السياسة الجديدة ظل هو «الشراكة عبر الهادي» في نهاية المطاف. وعليه، فالسؤال هو: على ماذا سينصب تركيز ترامب؟ الواقع أنه من المستبعد أن ينصب على الحضور الدبلوماسي نظراً لقلة الدبلوماسيين المحترفين، وإنْ كان قرار المشاركة في قمة شرق آسيا خطوة تستحق الإشادة. كما أنه من الجيد أن تكون ثمة ثلاث حاملات طائرات أميركية تعمل بشكل متزامن في المنطقة. لكن الأعمال طويلة المدى تتطلب الوقت والمال، ما يجعل العلاقات التجارية محور التحديات الباقية. التحدي الثاني: جميع البلدان الأخرى ترى سلبيات الاتفاقيات الثنائية. والحق أن ترامب كان صريحاً بشأن تفضيله اتفاقيات التجارة الثنائية على الاتفاقيات متعددة الأطراف، لكنه تفضيل لا تتقاسمه معه معظم البلدان الأخرى، وذلك لأسباب، منها أن معظم المفاوضات التجارية الحالية تدور حول القواعد والقوانين، وليس حول حواجز التعرفات الجمركية بين البلدان. والحقيقة أن القوانين الثنائية بين البلدان تُعد أقل قيمة وفائدة بكثير. التحدي الثالث: كيف نستعيد المصداقية الأميركية؟ مشكلة المصداقية هي ذات شقين. فمفاوضات «الشراكة عبر الهادئ» بدأت في خريف 2008، لكنها قُبلت من قبل إدارة أوباما في نهاية 2009. وخلال السنوات الست التي تلت ذلك، كان يقال للبلدان المشاركة أن تهتم فقط بشؤونها السياسية الداخلية، بينما ستهتم الولايات المتحدة بمشاكلها الخاصة. لكن النتيجة النهائية لذلك كانت أن كشفت البلدان الشريكة في الاتفاقية نفسها سياسياً ولم تجنِ من ذلك شيئاً ذا بال في نهاية المطاف، فيما انتهى الأمر بالحياة السياسية الأميركية إلى إزاحة الجهد عن سكته في النهاية. وبالتالي، فإنه قد يكون ثمة حذر عام الآن بشأن الاعتماد على الوعود الأميركية في المجال التجاري. وإلى ذلك، فإن الاتفاقيات التجارية يجب أن تجتاز الكونجرس. وإذا لم تكن البلدان الآسيوية تدرك ذلك، فإن تجربة «الشراكة عبر الهادئ» (التي وقعتها إدارة أوباما ولكنها لم تفلح أبداً في تمريرها من الكونجرس) تؤكده. ومن المؤكد أن زعماء المنطقة سيحاولون إقامة أو تعزيز علاقات شخصية دافئة مع الرئيس ترامب في هذه الجولة، غير أنه بينما يحاول تجاوز تبادل المجاملات والعبارات المازحة قد يجد نفسه أمام شبح «الشراكة عبر الهادئ»! ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»